مقالات

ضربُ منشآت الإقليم النفطية طعنة في خاصرة السيادة العراقية

في ظل التعقيدات الإقليمية المتزايدة، والتحولات الجيوسياسية التي تعصف بالشرق الأوسط، لم يعد العراق بمنأى عن دائرة الاشتباك غير المعلن. فالدولة التي بدأت تستعيد بعض عافيتها بعد سنوات من الحرب، والصراع، والتقاطع السياسي، باتت اليوم تواجه تحدياً جديداً يُضرب هذه المرة في خاصرتها الاقتصادية: المنشآت النفطية في إقليم كوردستان. استهداف مدروس يتجاوز حدود الجغرافية إن ما تتعرض له منشآت إقليم كوردستان النفطية لا يمكن اعتباره عملاً تخريبياً عابراً، أو حدثاً منفصلاً عن السياق العام. إنما هو استهداف ممنهج لمنظومة اقتصادية متشابكة مع الأمن الوطني، ومحاولة خبيثة لتحويل شريان الحياة العراقي إلى نقطة نزيف داخلي. النفط في العراق ليس فقط مادة اقتصادية، بل هو رأس مال سياسي وستراتيجي ورافعة للتوازن الوطني. ومن ثم فإن الاعتداء عليه هو اعتداء على المفهوم الأوسع للدولة. الجهات التي تقف خلف هذه الهجمات – سواء تم تحديدها بالأدلة أم بقيت في دائرة الترجيحات الأمنية – تعرف جيداً ماذا تستهدف، ومتى، ولماذا. فاختيار المواقع والتوقيت ليس عبثياً، بل يعكس فهماً عميقاً للخرائط الاقتصادية والسياسية للعراق، ومحاولة لإعادة تشكيل ميزان القوى عبر بوابة التخريب الاقتصادي. الاقتصاد العراقي ساحة مفتوحة للهجمات الرمزية تشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن قطاع النفط العراقي يواجه هشاشة متزايدة في ظل النزاعات، والضغوط الخارجية، والتحديات التقنية والإدارية، بالإضافة إلى تعقيد العلاقة بين بغداد وأربيل. وفي لحظة تحاول فيها الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان إيجاد أرضية تفاهم في ملف الثروات، تأتي هذه الضربات لتخريب ما تم بناؤه سياسيًا، ولتعميق فجوة الشك والارتياب بين الطرفين. الهجوم على المنشآت النفطية في الإقليم هو رسالة تتعدى خسائر الإنتاج؛ إنها تهدف إلى زعزعة ثقة الشركات العالمية، ودفع المستثمرين للانسحاب أو التريث، وتغذية الشكوك حول استقرار البيئة الاقتصادية والسياسية في العراق. البعد الأمني.. النفط كأداة في حروب غير معلنة المعادلة اليوم لم تعد تقليدية؛ لم يعد النفط سلعة فقط، بل صار ورقة ضغط، وأداة حرب، ومركزاً للصراع الجيوسياسي. واستهدافه لم يعد يتطلب جيوشاً جرارة، بل طائرات مسيرة أو صواريخ موجهة، و”فاعل مجهول” يخوض معاركه دون أن يظهر على السطح. في هذا السياق، يبدو العراق مكشوفاً على أكثر من جبهة، من الداخل والخارج، ويحتاج إلى عقيدة أمنية جديدة تُعيد تعريف أولويات الدفاع الوطني. إن استهداف منشأة نفطية في أي بقعة من العراق يجب أن يُعامل كأنه استهداف لوزارة الدفاع أو مقرات السيادة، لا أقل. فالمؤسسات الاقتصادية الكبرى أصبحت بمثابة مواقع ستراتيجية، وأي اختراق لها هو ضربة مباشرة للأمن القومي. الحاجة إلى موقف وطني فوق الخلافات في مواجهة هذا النوع من الاستهداف، لا يكفي التنديد أو انتظار نتائج التحقيقات. ما هو مطلوب اليوم هو موقف وطني عابر للانقسام السياسي والقومي. لأن ثروات العراق ليست حكراً على مكوّن أو جهة، بل هي ملكٌ مشترك لكل أبناء الوطن. وكل ما يهددها، يجب أن يُواجَه بصوت واحد، وبموقف سيادي واضح، وبمنظومة حماية متطورة قادرة على الوقاية والاستجابة. التنسيق الأمني بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان لم يعد خياراً سياسياً بل ضرورة ستراتيجية. كما أن التعاون الاستخباري واللوجستي، ومراقبة خطوط التهديد الإقليمي، يجب أن يرتقي إلى مستوى التعامل مع تهديدات كبرى تمس بنية الدولة نفسها. من يقف وراء هذا الاستهداف؟ وماذا يريد؟ التحليل الستراتيجي يشير إلى وجود جهات إقليمية تخشى من تعافي العراق، وتستشعر أن أي تحسن في العلاقة بين بغداد وأربيل يُمثل تهديداً لنفوذها أو امتداداتها. وبالتالي، فإن ضرب قطاع النفط لا يُقصد به فقط الإضرار بالاقتصاد، بل إحداث شروخ في التفاهمات السياسية، وزرع الشكوك بين الأطراف الوطنية. لا يمكن تجاهل احتمال أن تكون هذه الاعتداءات جزءاً من حرب اقتصادية غير معلنة على العراق، يُراد منها إعادة إنتاج الفوضى من خلال ضرب أهم مصدر تمويل للميزانية العامة، وتقييد قدرة الدولة على تمويل التزاماتها ورواتبها وخططها التنموية. خلاصة وموقف إننا أمام لحظة اختبار حقيقية لمدى جاهزية العراق – كدولة ومؤسسات وقوى سياسية – لمواجهة الجيل الجديد من التهديدات. فالهجمات لم تعد تأتِ عبر الحدود فقط، بل من داخل الفضاء الاقتصادي والرقمي، ومن خلال استهداف الأعصاب الحساسة للدولة. وعليه، فإن ما تتعرض له منشآت إقليم كوردستان النفطية يجب أن يُعالج ليس فقط كحدث أمني، بل كأزمة سياسية وستراتيجية كبرى، تتطلب: – بناء تحالف وطني لحماية الثروات الستراتيجية. – تطوير منظومة دفاع متكاملة عن البنى التحتية الحيوية. – خلق جبهة معلوماتية واستخبارية مشتركة. – وضع حدٍّ نهائي لاستباحة الاقتصاد العراقي كأداة ضغط من قبل أطراف أجنبية. في النهاية، النفط ليس ثروة فقط، بل أمن، وسيادة، واستقرار. واستهدافه هو استهداف لوحدة العراق ومستقبله، ويجب أن يُواجَه بما يليق بخطورته.

حيدر البرزنجي

رئيس مؤسسة نارام سين دكتوراه في الفكر السياسي الإسلامي
زر الذهاب إلى الأعلى