مقالات

استقرار إقليم كردستان… مسؤولية وطنية وشراكة استراتيجية لحماية العراق من الانقسام والفوضى

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، شكّل التوازن بين بغداد والأقاليم والمكونات أحد التحديات الجوهرية في بناء الدولة. ومع أن التجربة العراقية بعد عام 2003 أرست شكلاً جديداً من التعددية والاعتراف الدستوري بالمكونات، إلا أن العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان ظلّت محفوفة بالتوتر، تتأرجح بين الشراكة والخصومة، وبين التعاون والأزمة. واليوم، حين نتحدث عن ضرورة استقرار الإقليم، فإننا لا نطرح قضية كردية فئوية، بل قضية عراقية سيادية، ذات أبعاد استراتيجية تمس حاضر البلاد ومستقبله.الأزمة ليست في الرواتب فقط… بل في فهم العلاقة بين بغداد والإقليم.من السهل اختزال المشكلة الراهنة في إقليم كردستان على أنها “أزمة رواتب” لكن الحقيقة أعقد من ذلك بكثير. هذه الأزمة ليست مالية بقدر ما هي سياسية – تعكس عمق الخلل في آليات إدارة العلاقة بين بغداد وأربيل، وغياب الاتفاقات الملزمة التي تحفظ الحقوق وتُحدد الالتزامات. إنها نتيجة تراكمات سنوات طويلة من غياب الشفافية، وتداخل الصلاحيات، والمناكفات السياسية التي غالبًا ما يُستخدم فيها المواطن الكردي كوسيلة ضغط أو ورقة تفاوض.لقد مرّت العلاقة بين بغداد والإقليم بمحطات عديدة من الأزمات: أزمة الموازنة في 2014، أزمة الاستفتاء في 2017، وأزمة الرواتب المتكررة التي ألقت بظلالها على الوضع المعيشي للموظفين، وأثّرت على ثقة الناس بالدولة. وفي كل مرة، كانت الحلول تأتي متأخرة، ومبنية على تسويات ظرفية لا تلبث أن تنهار أمام أول تغيير سياسي أو اقتصادي.ما الذي تعلمناه من التجارب السابقة؟من أهم دروس الأزمات الماضية أن الحلول المؤقتة لا تصنع استقراراً دائماً، وأن تغييب الحوار يؤدي إلى الانفجار. كل مرة يُهمَّش فيها الحوار الجاد، نعود إلى المربع الأول، حيث تسود الاتهامات وتُطرح أسئلة الشك في النوايا، وتُستخدم قضايا الشعب كأدوات ضغط سياسية.في أزمة 2017 بعد الاستفتاء، أدّى غياب المبادرات الوطنية ورفض لغة الحوار إلى نتائج كارثية، كادت تعصف بالنسيج الوطني. وفي أزمة الموازنة عام 2020، دفع الإقليم أثماناً اقتصادية باهظة نتيجة تعطيل مستحقاته، لكن الخسارة لم تكن للإقليم وحده، بل للعراق ككل، الذي دخل في حالة من الاستقطاب الداخلي الحاد.هذه التجارب أثبتت أن غياب الثقة يفتح المجال أمام التدخلات الإقليمية والدولية، ويحول النزاعات المالية والإدارية إلى أزمات وجودية، ويزيد من تعقيد المشهد السياسي الوطني.المطلوب: خارطة طريق لا تقبل التأجيلمن هنا، فإن استقرار إقليم كردستان لا يجب أن يُنظر إليه كـ”مكرمة سياسية” أو كـ”تنازل من بغداد”، بل كاستحقاق وطني وضرورة لبقاء الدولة. إن العراق لا يمكنه أن ينهض، ولا أن يُبنى على أساس راسخ، دون أن تُعاد صياغة العلاقة بين بغداد والإقليم على أسس جديدة: • أولاً: العودة إلى الدستور كمرجعية عليا، بعيداً عن التأويلات الانتقائية أو الاستغلال السياسي للثغرات. • ثانياً: التوصل إلى اتفاق مالي شامل، يستند إلى مبدأ الشفافية والعدالة في توزيع الثروات. يجب أن تكون هناك آلية واضحة لإدارة الإيرادات النفطية وغير النفطية، ومراقبة حقيقية لضمان وصول المستحقات إلى المواطنين دون تأخير أو تلاعب. • ثالثاً: إنشاء مجلس تنسيقي دائم بين بغداد وأربيل، لا يقتصر على إدارة الأزمات، بل يكون إطاراً مؤسساتياً لتبادل الآراء، وتقديم الحلول قبل تفاقم الخلافات. • رابعاً: تحييد الملفات الخدمية والمعيشية عن التجاذبات السياسية، وضمان أن لا يُستخدم قوت المواطن الكردي – أو أي مواطن عراقي – كورقة ضغط بين الأطراف.بين العدالة والمصالحة… خطاب جديد مطلوبالمطلوب اليوم ليس فقط حلولاً مالية أو تقنية، بل خطاباً سياسياً جديداً، يعترف بحقوق الجميع، ويُعيد الاعتبار لفكرة “الوطن المشترك”. الخطاب الإقصائي – من أي طرف كان – لا يُنتج إلا مزيداً من التشرذم، ويقود إلى سيناريوهات مدمّرة. آن الأوان لأن تُفتح صفحة جديدة عنوانها التفاهم الوطني، والشراكة القائمة على الاحترام المتبادل، لا على فرض الإرادة أو تصفية الحسابات.وإذا كانت هناك أخطاء سابقة – سواء في سياسات الإقليم أو الحكومة الاتحادية – فإن معالجتها لا تكون بالعقوبات الجماعية، بل بتصحيح المسار من خلال مؤسسات الدولة، وبآليات سياسية وقانونية واضحة.الاستقرار ليس مصلحة كردية فقط… بل ضمانة لوحدة العراقحين يستقر إقليم كردستان، ينعكس ذلك إيجاباً على الاقتصاد الوطني، ويُسهم في تقليل الإنفاق الأمني، ويوفر مناخاً أفضل للاستثمار، ويعزز حضور الدولة في محيطها الإقليمي. بالمقابل، فإن بقاء الإقليم في حالة اضطراب دائم يضعف مركز العراق التفاوضي دولياً، ويؤثر على قدرته في مواجهة التحديات الكبرى، من الإرهاب إلى الضغوط الاقتصادية والديون الخارجية.إن القوى السياسية، في بغداد وأربيل على حد سواء، مدعوة لتحمّل مسؤوليتها التاريخية، والخروج من حسابات الربح والخسارة الحزبية الضيقة، نحو رؤية وطنية شاملة تستثمر في الاستقرار لا في الأزمات.خاتمةاستقرار إقليم كردستان ليس مجرد خيار سياسي، بل مسؤولية وطنية واستراتيجية تصب في مصلحة العراق بكل مكوناته. والمطلوب اليوم حوار شجاع ومسؤول، يعالج الجذور لا الظواهر، ويبني على ما تحقق، ويتجاوز ما تعثّر، بروح من الشراكة لا الخصومة، ومن التفاهم لا الإقصاء.إن العراق القوي لا يُبنى إلا بوحدة قراره، وعدالة مؤسساته، واحترام تنوعه، والتزامه التام بمواطنيه جميعاً، في الشمال والجنوب، في المركز والإقليم، بلا تمييز ولا انتقاص.

حيدر البرزنجي

رئيس مؤسسة نارام سين دكتوراه في الفكر السياسي الإسلامي
زر الذهاب إلى الأعلى