مقالات

النصر الإلهي في القرآن الكريم: حين يتفوّق الإيمان على الإمكانات

في زمنٍ بات يُقاس فيه “الانتصار” بلغة الأرقام وحجم العتاد وقوة التحالفات، يضع القرآن الكريم بين أيدينا تصورًا مختلفًا، بل مناقضًا في جوهره للمفاهيم المادية الشائعة.تصورٌ يعيد تعريف “النصر” لا بوصفه ناتجًا عن غلبة مادية أو تفوق عددي، بل بوصفه ثمرةً لإرادة إلهية لا تتقيّد بموازين الأرض، بل تخضع لحكمة السماء.القرآن لا يروي انتصارات المسلمين كأحداث تاريخية فقط، بل يُقدّمها كدروس وقوانين إيمانية ثابتة، تؤسس لفهمٍ راسخٍ مفاده أن:النصر من عند الله، وأنّ قلةً مؤمنة صادقة قد تهزم كثرةً مغرورة بما تملك. بدر: المعركة الفاصلة بين قلة مؤمنة وكثرة متجبرةحين وقف المسلمون في بدر، كانوا لا يتجاوزون ثلاثمئة رجل، حفاةً إلا قليلًا، بلا دروع تقيهم، ولا فرسان تسبقهم، أمام جيشٍ قرشيّ يفوقهم عددًا وعدّة.ولم يكن ذلك إلا امتحانًا لقيمةٍ خالدة:﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ (آل عمران: 123)هذه الآية ليست مجرّد توثيق لانتصار، بل إشارة إلى المعادلة الجديدة التي جاء بها الإسلام:الكرامة والنصر لا تتحقق بالقوة الظاهرة، بل بالتوكل والثبات والثقة بالله.وقد أمدّهم الله يومها بألف من الملائكة مردفين، لا لأنهم كانوا بحاجة مادية لذلك، بل لأن الله أراد أن يُريهم أن “النصر” لا تحكمه قوانين الأرض فقط:﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ (الأنفال: 9) طالوت وجالوت: أسطورة القلة الغالبةقبل بدر بقرون، يروي لنا القرآن قصة طالوت، القائد الفقير الذي قاد بني إسرائيل، في مواجهة جالوت المتغطرس بجيشه الضخم.ومن وسط هذا التفاوت المخيف، يُسطّر القرآن واحدة من أعظم القواعد:﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 249)إنه “إذن الله”، العامل غير المحسوب في موازين البشر.من خلاله تُهزم الكثرة، وتعلو القلة، وينتصر الضعفاء الذين تجرّدوا من كل حول إلا حول الله. أُحد: حتى في لحظات الضعف.. لا هزيمة لمن ثبتفي غزوة أحد، تعرّض المسلمون لواحدة من أعظم النكسات. تغيرت الكفّة، وسقط الشهداء، وارتفعت أصوات الشماتة.لكن القرآن لم يدع هذا الحدث يمرّ دون أن يحوّله إلى درس:﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)فالعلو لا يكون دائمًا في النتائج العسكرية، بل في الثبات الأخلاقي، في وضوح الهدف، في عدم خيانة الرسالة.فمن ثبت على خط الحق، فهو الأعلى، حتى إن انكسر سيفه. النصر وعدٌ لا يُخلفه اللهوسط هذه الوقائع، تتكرّر آية جامعة تلخّص فلسفة النصر في القرآن الكريم:﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ﴾ (آل عمران: 160)الآية لا تتعامل مع النصر على أنه خيار سياسي، بل قرار إلهي يتنزل وفق مقاييس الإيمان والتقوى والنية الخالصة.فمن نصره الله، فلا يمكن لأي قوة أن تهزمه، ومن خذله، فلا ناصر له ولو اجتمع له كل أهل الأرض. بين نصوص القرآن وواقع الأمةالواقع اليوم – كما الأمس – يكشف لنا أن مشاريع المقاومة، والحق، والاستقلال السياسي، كثيرًا ما تبدأ ضعيفة، محاصرة، بلا سند.لكن التجارب تثبت أن الرهان على “نصر الله” ليس خيارًا غيبيًا عاطفيًا، بل هو فهم استراتيجي مختلف لماهية القوة.نحن نعيش في عالم تُهيمن عليه لغة المال والإعلام والسلاح، لكن القرآن يُعلّمنا أن هذه ليست النهاية، بل مجرد طبقة أولى من المشهد.فالطبقة الأعمق هي: من مع الله؟ ومن على حق؟ ومن هو الثابت؟ الخلاصة:من يتأمل هذه الآيات، ويدرس سنن الله في التاريخ، يدرك أن الانتصار القرآني ليس حدثًا عابرًا، بل قانونًا إلهيًا يتكرّر كلما توفرت شروطه:الإخلاص، الثبات، الصبر، التوكل، وعدم الركون للعدد والعدة.وحين تتحقق هذه المعايير، فإن معارك الأرض تُحسم في السماء، وإن كانت كفة الواقع تميل للباطل.كلمة أخيرةالقرآن لا يُحدّثنا عن النصر لنفرح بالتاريخ، بل لنفهم الحاضر.فكل أمة، وكل حركة، وكل جماعة تقف اليوم في وجه الباطل بإيمانٍ ويقين، فإنما تُعيد تمثيل مشهد بدر، وتكتب فصلاً جديدًا في قصة النصر الخالد .

عماد المسافر

عضو مجلس الإدارة كلية الإعلام، الجامعة العراقية
زر الذهاب إلى الأعلى